# # # #
   
 
 
[ 14.12.2008 ]
تاريخ ما أهمله التاريخ – الشهيد عبدالفضيل الماظ: الطيب نور الدائم


جمع المادة: طارق عبدالله

يصادف اليوم الجمعة 28/11/2008م الذكرى الرابعة والثمانون للاستشهاد الأسطوري لبطل ثورة 1924م وفتاها الأغر، البطل الشهيد عبد الفضيل الماظ.

لقد كتب الكثير عن الشهيد وعن تمرد نوفمبر 1924م الذي قاده.. وللإلمام ببعض جوانب السيرة الذاتية للشهيد يمكن مراجعة كتاب "ملامح من المجتمع السوداني" للمرحوم حسن نجيله.

كما أورد المرحوم حسن نجيله، فقد كان من ضمن من شاركوا في معركة كرري في العام 1898م الجندي الماظ عيسى الذي جاء مرافقاً للحملة تصحبه زوجته وطفله عبد الفضيل المولود بمصر. ومن المعلوم أن القوات الغازية قد استباحت مدينة أم درمان ففر من فر وبقي من بقي كان من ضمن سكان أم درمان الذين تقطعت بهم السبل امرأة تسمى حواء(1) وبنتها زينب آواهما في منزله رجل يسمى الشقليني(2) بحي الفتيحاب لقد شاءت ارداة الله أن تكون حواء التي عربت بين أهل الحي باسم "حواء" هي شقيقة زوجة الجندي الماظ عيسى وخالة البطل الشهيد عبد الفضيل الماظ.

استقرت أسرة الماظ عيسى مع شقيقة زوجته "حواء" بمنزل الشقليني بحي الفتيحاب حيث نشأ وترعرع الطفل عبد الفضيل الماظ والتحق بخلوة الفكي الاسيد.

وبما أن أسرة الماظ كانت من أقلية لا تنتمي عرقياً إلى أهل الحي، لم يأبه بها احد في بادئ الأمر، لذا فإن طفولة البطل الشهيد وصباه الباكر قد شابها بعض الغموض. فكل ما يذكره أهل الحي أن الطفل عبد الفضيل الماظ كان تلميذاً نجيباً بخلوة الفكي الاسيد.

لم يلفت البطل الشهيد أنظار أهل الحي إلا بعد أن صار ضابطا لذا فإن الفترة منذ عودته من تلودي في بداية العام 1923م وحتى تاريخ استشهاده يوم الجمعة 28 نوفمبر1924م تكاد تكون مسجلة بأدق تفاصيلها في ذاكرتهم.

اخبرني المرحوم عبد القهار حامد سليمان المولود بحي الفتيحاب في العام 1890 تقريبا والمتوفي به في ابريل 2007م انه وبينما كان في طريقه إلى مزرعته على شاطئ النيل الأبيض قبالة منطقة أم درمان العسكرية، قد شاهد الضابط عبد الفضيل الماظ، الذي كان يسكن حوش الشقليني يقود مجموعة من الجنود في طريقهم إلى قرية "باروكة"(3) فلم يعر الأمر التفاتا، لأنه اعتاد أن يراهم جيئة وذهابا من والى تلك القرية ولكنه فوجئ في اليوم بـ"عبد الفضيل الماظ" يقتحم الخرطوم ويقتل عساكر الإنجليز.

كما اخبرني أيضا العمل احمد فضل السيد، المولود بقرية "باروكة" في العام1930م تقريباً، نقلاً عن والدته، أن الضابط عبد الفضيل الماظ كان شخصية معروفة تماماً لدى أهل القرية، وأنه عندما اقتحم الخرطوم تحرك من القرية في صباحا شتويا حيث اصطف القرويون لتحية الثوار وأطلقت نساء القرية "زغرودة" فرد عليهن البطل الشهيد قائلاً "ابشرن بالخير بكرة الطير يأكل ناس".

أن الروايتين المذكورتين آنفا تشيران إلى أن تحرك الثوار لم يبدأ من ثكنات سعيد باشا بالخرطوم كما اشار لذلك المؤرخون بل كان هناك تخطيط قد سبق الاحداث التي شهدها يوما 27 و28 نوفمبر 1924م، ففي صبيحة 26 نوفمبر 1924م قاد البطل الشهيد عبد الفضيل الماظ سريتين "60 فردا" واتجه بهما إلى قرية "باروكة" كأنهم في تدريبات روتينية، وقضوا نهار ذلك اليوم وليلة 27 نوفمبر 1924م بالقرية حيث نظموا صفوفهم واوكلوا المهام بعيداً عن اعين الرقيب، ثم كروا عائدين إلى أم درمان وعبروا النيل إلى الخرطوم في ظهيرة الخميس 27 نوفمبر 1924م حيث انضم اليهم بقية الثوار من ثكنات سعيد باشا.

أن تحركات البطل الشهيد عبد الفضيل الماظ من والى قرية "باروكة" لم تكن لتثير اي نوع من الشكوك تجاهه لان اسمه لم يرد على الاطلاق في وثائق البريطانيين كثائر قبل نوفمبر 1924(4).

على هامش سيرة الشهيد

أوردت المصادر التاريخية أن ما يزيد على اثني عشر جندياً من المشاركين في الثورة قد استشهدوا وان الباقين قد عبروا النيل إلى أم درمان والقي القبض عليهم فيما بعد ونفذ في جزء كبير منهم حكم الإعدام (5) فما قصة هؤلاء؟

كان معظم الجنود المشاركين في الثورة من ابناء جبال النوبة، وقد عبر الناجون منهم النيل إلى أم درمان بأسلحتهم الخالية من الذخيرة قاصدين جبال النوبة. وفي الخرطوم تكونت فصيلة بقيادة هدلستون باشا لتعقيب هؤلاء الجنود واحضارهم. وعند وصول هذه الفصيلة إلى قرية "التريس الجموعية" بريف أم درمان الجنوبي حيث معقل المك "على ود ناصر"، مك عموم قبيلة الجموعية، اعترض المك سبيل هدلستون وطلب منه أن يدع الفارين وشأنهم. ويقال إن مشادة كلامية قد نشبت بين المك "على ود ناصر" وهدلستون، هدد فيها الاول بتحريض قبيلة الجموعية ضد السلطات الاستعمارية إذا لم يسمح لهؤلاء الجنود بمواصلة سيرهم هنا لجأ هدلستون إلى سلاح المكر والخديعة وأخبر المك انه كنائب للحاكم العام وممثل للسلطة مستعد للعفو عن هؤلاء الجنود مقابل تسليمهم إياه بعد تجريدهم من السلاح وطردهم من الخدمة. وبموجب هذا الاتفاق لحق المك "على ود ناصر" بالثوار الذين توغلوا غرباً وعاد بهم وسلمهم هدلستون باشا.

حنث هدلستون باشا بوعده وحكم على معظم هؤلاء الجنود بالإعدام لقد أوقعت خيانة هدلستون باشا المك "على ود ناصر" في أزمة نفسية عميقة انتهت بموته منتحراً في العام 1936م فإثر احتداده في النقاش مع زوجته، اخرج المك بندقيته وصوبها نحوها فأرداها قتيلة، ثم وجه السلاح نحو رأسه ولحق بها في الحال في حادث هز حي الموردة ومدينة أم درمان وقبيلة الجموعية في ذلك العام

إن المك "علي ود ناصر" شخصية قد ظلمها التاريخ فقد كان رحمه الله من داعمي الثورة ورعاتها، ودليلنا على ذلك أن القارئ اذا ما راجع كتاب الدكتور حسن عابدين المشار اليه في هوامش هذا المقال في باب "اسفار الولاء" لن يجد اسم المك "علي ود ناصر" على الاطلاق، رغم أن الرجل كان زعيم أكبر قبيلة في ولاية الخرطوم وهي قبيلة الجموعية.

وعوداً على بدء، فقد ترك البطل الشهيد عبد الفضيل الماظ كثائر لوحة إنسانية رائعة بحي الفتيحاب. لقد كان الشهيد العظيم انساناً بكل ما تحمل كلمة إنسان من معنى.

فلا تجد بيتاً في الحي او ساكناً من ساكنيه إلا وله معه موقف. وقد حكى عنه معاصروه من أهل الحي انه كان مهذباً دمث الاخلاق يوقر الكبير ويحترم الصغير وله كلف شديد بالأطفال ورعاية خاصة لهم كما كان يعود المرضى ويشيّع الجنائز كان منزله ملتقى جامعا لاهل الحي لانه الشخص الوحيد الذي كان يمتلك جهاز فونغراف من بينهم هذا اضافة إلى أن البطل الشهيد كان من رواد الاستنارة حيث ذكر الذين كانوا اطفالاً في العشرينيات من القرن الماضي والذين انتقلوا جميعا إلى رحمة الله أن الشهيد كان ينظم مسابقات في العدو والوثب للاطفال والصبيان ويخصص لذلك الجوائز كما ذكر أهل قرية "باروكة" أن الشهيد كان يتشدد مع الجنود الذين يعبثون بممتلكات المواطنين ويوقع بهم اشد العقوبات.

في يومي24و25 نوفمبر1924م طاف البطل الشهيد على بيوت الحي بيتاً بيتاً مودعاً وكان أهل الحي يظنون أن الشهيد على سفر، إلى أن فوجئوا بما حدث يوم الجمعة 28 نوفمبر 1924م فمنذ عصر الخميس 27 نوفمبر 1924م بدأت ترد إلى مسامعهم اصوات المعركة الدائرة على الضفة الاخرى للنهر. ومما زاد من قلقهم انهم قد شاهدوا الفرس الأبيض يعود إلى الحي في ظهيرة الجمعة 28 نوفمبر1924م بلا فارس على صهوته وهو يصهل صهيلاً حزيناً ادرك أهل الحي الذين كانت لهم دراية كبيرة بالخيول وسياستها في ذلك الزمان، أن خطباً جللاً قد حلّ بفتاهم فظلوا في حالة من القلق والتوتر إلى أن نعى لهم الناعي البطل.

عندها تيقن أهل الحي أن فتاهم قد مات تلك الميتة المشرفة، اعدوا "النحاس" واسرجوا الخيول للذهاب على الخرطوم لاحضار الجثمان ودفنه بمقابر الفتيحاب بما يليق بمقام الابطال، إلا انه قد ابطل تخطيطهم من جاء يحذرهم من مغبة فعلهم هذا من قبل السلطات الاستعمارية.

اكتفى أهل الحي بإقامة مأتم للبطل الشهيد بدار العمدة محمود سليمان حامد المك عمدة الفتيحاب في ذلك التاريخ لقد كان مأتماً حزيناً امّه الجميع وتبارت فيه النسوة في رثاء الشهيد حيث نظمت "مناحة" على نسق مناحة "غرار العبوس" ذائعة الصيت إلا أن الذاكرة الخربة لم تعد تحفظ منها إلا بيتاً واحدا هو مطلعها الذي يقول:

انكسر المرق واتشتت الرصاص*** أحيّ على عبد الفضيل الماظ

هوامش ومراجع:

(1) حواء خالة البطل الشهيد هي التي تكفلت بتربيته بعد وفاة والدته لذا لم يفارقها الشهيد إطلاقاً وظل يقيم معها رغم أن زوجته التي انجبت له ابنه جار النبي ظلت تقيم بحي الضباط بام درمان وجدير بالذكر أن حواء وبنتها زينب ظلتا تقيمان بحي الفتيحاب إلى أن وافاهما الأجل ودفنتا بمقابر الفتيحاب.

(2) الشقليني "بكسر الشين والقاف" من أهل الفتيحاب باع منزله الذي كان يسكن به البطل الشهيد وارتحل إلى حي "ابو كدوك" وقد حاولت استنطاق احفاده حول علاقة جدهم بأسرة الماظ ولم أتوصّل لنتيجة.

(3) قرية "باروكة" تقع على بعد حوالى (15) كلم جنوب غرب أم درمان، وقد كانت مناطق غرب أم درمان وما زالت تستخدم للتدريبات العسكرية.

(4) د. الينا فيزاديني- لقاء اجراه معها الصحافي سيف الدين عبدالحميد- الجزء الثاني- جريدة الصحافة – الثلاثاء29 يوليو2008م.

(5) فجر الحركة الوطنية– الدكتور حسن عابدين- مؤسسة أروقة للثقافة والعلوم-14606/2005- نقلته من الانجليزية نعمات صالح عيسى.



Source: www.tahalof.info


رأي ـ تعليق  



هل قرأت المقال اعلاه؟   
اكتب    
 
 
 
 
 
  
site created & hosted by